والإخلاص بهذا المعنى: ثمرة من ثمرات "التوحيد" الكامل لله تبارك وتعالى، الذي هو إفراد الله عز وجل بالعبادة والاستعانة، والذي يعبر عنه قوله سبحانه في فاتحة الكتاب وأم القرآن: (إياك نعبد وإياك نستعين).
والذي يناجي به المسلم ربه في صلواته كل يوم ما لا يقل عن سبع عشرة مرة.
وبهذا الإخلاص المتجرد: يتخلص من كل رق، ويتحرر من كل عبودية لغير الله: عبودية الدينار، والدرهم، والمرأة والكأس، والزينة والمظهر، والجاه والمنصب، وسلطان الغريزة والعادة، وكل ألوان العبودية للدنيا التي استسلم لها الناس، ويكون كما أمر الله رسوله: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
[COLOR="Red"]ضرورة الإخلاص للسالكين
وقد أجمع الربانيون ـ من رجال التربية الروحية، وأهل الطريق إلى الله ـ على أهمية الإخلاص وضرورته لكل عمل من أعمال الآخرة، وكل سالك للطريق.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي في مقدمة كتاب "النية والإخلاص والصدق" من ربع المنجيات من "الإحياء":"قد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان، وأنوار القرآن: أن لا وصول إلى السعادة، إلا بالعلم والعبادة، فالناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم، فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، وهو للنفاق كفاء، ومع العصيان سواء، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء، وقد قال الله تعالى في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوبا مغمورا: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا)".
وما قاله الغزالي سبق بنحوه العارف الرباني سهل بن عبد الله التستري، حيث قال: الناس كلهم سكارى إلا العلماء، والعلماء كلهم حيارى، إلا من عمل بعلمه.
وفي لفظ آخر قال: الدنيا جهل وموت، إلا العلم، والعلم كله حجة (أي على صاحبه)، إلا العمل به، والعمل كله هباء، إلا الإخلاص، والإخلاص على خطر عظيم حتى يختم به.
وقال بعضهم: العلم بذر، والعمل زرع، وماؤه الإخلاص.
وقال ابن عطاء الله في "حكمه":إن الله لا يحب العمل المشترك، ولا القلب المشترك، فالعمل المشترك هو لا يقبله، والقلب المشترك هو لا يقبل عليه.
إن العلم الذي لا يصحبه الإخلاص صورة بلا حياة، وجثة بلا روح، والله تعالى إنما يريد من الأعمال حقائقها لا رسومها وصورها، ولهذا يرد كل عمل مغشوش على صاحبه، كما يرد الصيرفي الناقد العملة المزيفة.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" وأشار بأصبعه إلى قلبه. وقال: "التقوى ههنا" وأشار إلى صدره ثلاث مرات.
وقال تعالى في شأن قرابين الهدى والأضاحي التي يقدمها الحجاج والمعتمرون: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم).
[color:3074="Green"]الإخلاص مطلوب لصلاح الحياة
[color:3074="Sienna"]
وليس تشديد الإسلام في طلب الإخلاص، وتأكيده على تجريد النية لله، وتصحيح الاتجاه إليه وحده: ضربا من التزمت أو العبث، فإن الحياة نفسها لا تستقيم ولا ترتقي إلا بالمخلصين، وأكثر ما يصيب الأمم والجماعات من النكبات والكوارث القاصمة إنما يجره عليها أناس لا يرجون الله والدار الآخرة .. أناس من عبيد الدنيا، وعشاق الثروة، الذين لا يبالون ـ في سبيل دنياهم وشهوات أنفسهم ـ أن يدمروا دنيا الآخرين ودينهم معا، وأن يحولوا الأبنية إلى خرائب، والمنازل إلى مقابر، والحياة إلى موات.
أو أناس من طلاب الزعامة والسلطة، وعبيد الشهرة والجاه، وعشاق المجد الشخصي، والبطولة بغير الحق، إنهم في سبيل الحصول على المجد والسلطان، أو في سبيل الحفاظ على ما أدركوا منه، لا يبالون أن يخربوا ديارا، ويدمروا أمة بل أمما بأسرها، لا لشيء إلا لتصفق لهم الأيدي، وتهتف لهم الحناجر، وتنطلق بإطرائهم الأقلام، وتسبح بحمدهم الجماهير المسكينة المخدوعة، ويدوم لهم الاستمتاع بكراسي الحكم الوثيرة! وشعار كل منهم: أنا أو يخرب العالم من بعدي
إن الإسلام لا يرضى للمسلم أن يعيش بوجهين: وجه لله، ووجه لشركائه، ولا أن تنقسم حياته إلى شطرين: شطر لله وشطر للطاغوت، الإسلام يرفض الثنائية المقيتة، والازدواجية البغيضة، التي نشهدها في حياة المسلمين اليوم، فنجد الرجل مسلما في المسجد أو في شهر رمضان، ثم هو في حياته، أو في معاملاته، أو في مواقفه إنسان آخر، إن الإخلاص هو الذي يوحد حياة المسلم، ويجعلها كلها لله، كما يجعله كله لله، فصلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين